متى تسوى مقاعد الصف الأمامي في قاعاتنا بباقي الصفوف

      للصف الأمامي في مناسباتنا مقاعد أكبر ليجلس عليها الضيوف المهمون، هؤلاء الضيوف يكونون عادة من المسئولين في الحكومة كعميد البلدية ، أو وزير، أو عضو في المجلس التشريعي. لكن هل هذه الظاهرة مشتركة بين الشعوب أم نختص بها نحن فقط.
      أقيمت قبل سنوات قليلة مناسبة في الجامعة الأسمرية لا أذكرها اليوم حضرها أعضاء من المؤتمر الوطني وبعض المسئولين في المدينة، وكانت طبيعة هذه الجلسة طبيعة عمل، أظن أنها حسب ما أذكر عن خيارات الدستور أو ما شابه. أزيلت من المنصة الطاولة التي يمكن للمشارك أن يستعملها لكتابة ملاحظات أو تدوين أفكار ووضعت بدلا عنها مقاعد كبيرة جدا من النوع الذي قد يستعمله الإنسان للنوم، في صورة تدل على انتفاء الحرفية عن اللقاء تماما.
     أقيم مؤتمر في فندق تيبستي في بنغازي منذ ما يزيد على السبع سنوات، وكان المخطط أن تبدأ الجلسة الافتتاحية عند ساعة ما، لكنها لم تبدأ إلا متأخرة ما يزيد على الثلاث ساعات لأن الحضور كانوا ينتظرون أمين الصحة في شعبية بنغازي حينها، الذي كان شديد الإنشغالات لدرجة جعلته يترك المؤتمر بحاله في حالة انتظار، ثم عندما جاء أجلس على المنصة كأن المؤتمر نسق من أجله.

     أقيم في طرابلس في الفترة الماضية الملتقى العام للعلماء والدعاة والخطباء والوعاظ وطلبة العلم وكان في الجالس في المقدمة السيد نوري أبو سهمين ، والسيد عمر الحاسي وكلاهما ليس عالما ولا داعية ولا خطيبا ولا واعظا ولا ينتمي إلى طلبة العلم. فلماذا كانا في المقدمة. 
     تقام عديد المناسبات هنا وهناك وبدلا من أن يهتم الحضور بالقصد من المناسبة أو الاجتماع يهتمون بالضيوف المهمين، بمكان جلوسهم، ومقاعدهم الوثيرة، وإعطائهم الكلمة للتعبير عن آرائهم والحديث عن بطولاتهم ومواقفهم في الثورة وقبلها وبعدها، وأنهم فعلوا وفعلوا وفعلوا .

صناعة الطغاة:


      ورد في البداية والنهاية في سياق فتح بيت المقدس على يدي عمر بن الخطاب : وقال أبو بكر بن أبي الدنيا، حدثني الربيع بن ثعلب، نا أبو إسماعيل المؤدب، عن عبد الله بن مسلم بن هرمز المكي، عن أبي الغالية الشامي قال: قدم عمر بن الخطاب الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق، تلوح صلعته للشمس، ليس عليه قلنسوة ولا عمامة، تصطفق رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، وطاؤه كساء أنبجاني ذو صوف هو وطاؤه إذا ركب، وفراشه إذا نزل، حقيبته نمرة أو شملة محشوة ليفا، هي حقيبته إذا ركب ووسادته إذا نزل، وعليه قميص من كرابيس قد رسم وتخرق جنبه.
     فقال: ادعوا لي رأس القوم، فدعوا له الجلومس.
     فقال: اغسلوا قميصي وخيطوه وأعيروني ثوبا أو قميصا.
     فأتي بقميص كتان، فقال: ما هذا؟
     قالوا: كتان.
     قال: وما الكتان؟
     فأخبروه فنزع قميصه، فغسل ورقع، وأتى به فنزع قميصهم ولبس قميصه.
     فقال له الجلومس: أنت ملك العرب، وهذه البلاد لا تصلح بها الإبل، فلو لبست شيئا غير هذا وركبت برذونا لكان ذلك أعظم في أعين الروم.
     فقال: نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فلا نطلب بغير الله بديلا، فأتي ببرذون فطرح عليه قطيفة بلا سرج ولا رحل فركبه بها، فقال: احبسوا احبسوا، ما كنت أرى الناس يركبون الشيطان قبل هذا فأتي بجمله فركبه.
     هذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه، أحد المبشرين بالجنة، خشي على نفسه من الكبر والخيلاء عندما ركب برذونا في موضع ربما يحتاج إلى أن يفعل ذلك ليظهر عظمة الدولة الإسلامية وهيبتها، ولكنه لم يفعل، فماذا نفعل نحن بهؤلاء القوم ؟؟

     النفس البشرية بطبيعتها تفتن عندما يشعرها الغير بأهميتها ورفعتها وعظمتها، ويبدأ الأمر أولا بقبوله على مضض دون تصديق، ولكن عندما يتكرر مرات عديدة يصيره الوعي حقيقة فيصبح المرء مفتونا بنفسه، ظانا علو قدره وهيبته، حتى يظن أن ليس على الأرض من يماثله ويظاهيه بعلو قدره ورفعة نفسه وقدرته على اتخاذ القرارات واقتراح الأفكار. فينتهي الأمر به إلى طاغية على قدر نفسه وعلى قدر المكان الذي يجلس فيه.
الطيب محسن